لطيفة بن محمد نائب مدير المنتدى
| موضوع: الأدب قبل العلم السبت مارس 31, 2012 7:03 pm | |
| الأدب قبل العلم د. بدر عبد الحميد هميسه
بسم الله الرحمن الرحيم
بعض طلاب العلم يجعلون شغلهم الشاغل جمع العلوم والمعارف , وتكديس الكتب والدفاتر , وتتبع زلات العلماء وخلافات الفقهاء ,والخوض في لحوم العلماء, وكل ذلك على حساب تعلم الأدب والأخلاق , وعلى تطبيق ما تعلموه . ولقد نعى القرآن الكريم على من يحملون العلم , ولا يدركون من منافعه شيئاً , قال تعالى : " مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) سورة الجمعة . بل عاب على علماء اليهود والنصارى الذين عرفوا الحق , وأيقنوا أن طريق الإسلام هو طريق الصدق , ولكنهم عناداً واستكباراً ولسوء أخلاقهم , ولعدم عملهم بما قد تعلموه , رفضوا قبول دعوة الحق والصدق , قال تعالى: "أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) سورة البقرة . وقال: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) سورة البقرة . وقال :" وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) سورة آل عمران .
ولقد ذكر لنا القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام مع الخضر , وأن تعجله في طلب العلم قد حرمه من تعلم ما قد يعود عليه بالخير والصلاح , عَنْ سَعِيد بن جُبَيْر : قَالَ : قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ : إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ ، لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، إِنَمَّا هُوَ مُوسَى آخَرُ ؟ فَقَالَ : كَذَبَ عَدُوُّ اللهِ ، حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَسُئِلَ : أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ فَقَالَ : أَنَا ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : بَلَى ، لِي عَبْدٌ بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ : أَيْ رَبِّ ، وَمَنْ لِي بِهِ ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ : أَيْ رَبِّ ، وَكَيْفَ لِي بِهِ ؟ قَالَ : تَأْخُذُ حُوتًا ، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُْوَ ثَمَّ ، وَرُبَّمَا قَالَ : فَهُْوَ ثَمَّهْ ، وَأَخَذَ حُوتًا ، فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ، ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَفَ تَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ ، حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَةَ ، وَضَعَا رُؤُوسَهُمَا ، فَرَقَدَ مُوسَى ، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ ، فَخَرَجَ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ ، فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ ، فَقَالَ هَكَذَا مِثْلُ الطَّاقِ ، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ لِفَتَاهُ : آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ : أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ، وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ، فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا ، وَلَهُمَا عَجَبًا ، قَالَ لَهُ مُوسَى : ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي ، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا ، رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ ، فَسَلَّمَ مُوسَى ، فَرَدَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ ؟! قَالَ : أَنَا مُوسَى ، قَالَ : مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا ، قَالَ : يَا مُوسَى ، إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ ، عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لاَ تَعْلَمُهُ ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ ، عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ أَعْلَمُهُ ، قَالَ : هَلْ أَتَّبِعُكَ ؟ قَالَ :إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) ، (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) ، إِلَى قَوْلِهِ :إِمْرًا) ، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ ، كَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ ، فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ نَوْلٍ ، فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جَاءَ عُصْفُورٌ ، فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ ، فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً ، أَوْ نَقْرَتَيْنِ ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ : يَا مُوسَى ، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلاَّ مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا ا لْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ ، إِذْ أَخَذَ الْفَأْسَ فَنَزَعَ لَوْحًا ، قَالَ : فَلَمْ يَفْجَأْ مُوسَى إِلاَّ وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالْقَدُّومِ ، فَقَالَ لَهُ مُوسَى : مَا صَنَعْتَ ؟! قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ، قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ؟ قَالَ : لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ، فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنَ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلاَمٍ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَلَعَهُ بِيَدِهِ هَكَذَا - وَأَوْمَأَ سُفْيَانُ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ يَقْطِفُ شَيْئًا - فَقَالَ لَهُ مُوسَى : أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ، قَالَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ، قَالَ : إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَ دُنِّي عُذْرًا ، فَانْطَلَقَا ، حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا ، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ، مَائِلاً ، أَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا (وَأَشَارَ سُفْيَانُ ، كَأَنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئًا إِلَى فَوْقُ ، فَلَمْ أَسْمَعْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ مَائِلاً إِلاَّ مَرَّةً) قَالَ : قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا ، وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، عَمَدْتَ إِلَى حَائِطِهِمْ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ، قَالَ : هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ ، فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا.قال سُفْيان : قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى ، لَوْ كَانَ صَبَرَ ، يُقَصُّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ :أَمَامَهُمْ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤ ْمِنَيْنِ.قَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ : ثُمَّ قَالَ لِي سُفْيَانُ : سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ ، وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ.قِيلَ لِسُفْيَانَ : حَفِظْتَهُ قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرٍو ، أَوْ تَحَفَّظْتَهُ مِنْ إِنْسَانٍ ؟ فَقَالَ : مِمَّنْ أَتَحَفَّظُهُ ، وَرَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ عَمْرٍو غَيْرِي ؟! سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلاَثًا ، وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ. أخرجه أحمد" 5/118(21434) "البُخَارِي" 1/41(122) و"مسلم" 7/103(6239) و"أبو داود" 4707 والتِّرْمِذِيّ" 3149. فقد تعلمنا من هذه القصة عدم الاستعجال في طلب العلم والصبر على المعلم وعدم مقاطعته , وكلها آداب يجب أن يعرفها المتعلم قبل طلب العلم .
وقد دعانا الله سبحانه إلى استعمال الحكمة والموعظة الحسنة في طلب العلم حتى يرتبط العلم بالأخلاق , قال تعالى : " ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) سورة الزخرف . وقال: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) سورة فصلت . فالعلم قرين الأخلاق , عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ ، لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ.أخرجه أحمد 4/420(20014) و"أبو داود"4880. ولقد حرص الصحابة رضوان الله عليهم على ربط العلم بالعمل , والعلم بالأدب , عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه , قال : حَدَّثَنَا مَنْ كَانَ يُقْرِئُنَا مِنْ أصْحَابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم :أنَّهُمْ كَانُوا يَقْتَرِؤَنَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ آيَاتٍ ، فَلاَ يَأْخُذُونَ فِي الْعَشْرِ الأخْرَى حَتَّى يَعْلَمُوا مَا فِي هَذِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ . قَالُوا : فَعَلِمْنَا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ.أخرجه أحمد 5/410. قال الدؤلي: يأيها الرجلُ المعلمُ غيرَهُ * * * هلا لنفسِكَ كان ذا التعليمُ تصفُ الدواء لذي السقامِ وذي الضنى * * * كيما يصحَّ به وأنتَ سقيمُ ونراكَ تصلحُ بالرشادِ عقولَنا * * * أبداً وأنتَ من الرشادِ عديمُ لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثلهُ * * * عارٌ عليكَ إِذا فعْلتَ عظيمُ وابدأ بنفسِكَ فانَهها عن غَيِّها * * * فإِذا انتهتْ منه فأنتَ حكيمُ فهناكَ يقبلُ ما وعظْتَ ويفتدى * * * بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ ولقد عاب الخطيب البغدادي على أمثال هؤلاء الذين لا شغل لديهم إلا جمع الدفاتر والانشغال بالحفظ عن التطبيق , قال : ( وقد رأيت خلقا من أهل هذا الزمان ينتسبون إلى الحديث، ويعدون أنفسهم من أهله المختصين بسماعه ونقله، وهم أبعد الناس مما يدعون، واقلهم معرفة بما إليه ينتسبون. يرى الواحد منهم إذا كتب عددا قليلا من الأجزاء، واشتغل بالسماع برهة يسيرة من الدهر، انه صاحب حديث على الإطلاق، ولما يجهد نفسه ويتعبها في طلابه، ولا لحقْتهُ مشقه الحفظ لصنوفه وأبوابه... وقال (وهم مع قلة كَتبِهم له وعدم معرفتهم به ، أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيها وعجبا ، لا يراعون لشيخ حرمة ، ولا يوجبون لطالب ذمة ، يخرقون - يجهلون - بالراوين ويعنفون على المتعلمين خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه ، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه .....) ا هـ .راجع : الجامع لأخلاق الراوي 1/77. وأقوال علماء السلف رضوان الله تعالى عليهم تؤكد إيمانهم بضرورة تعلم الأدب قبل العلم , وتقديم التأدب على التعلم , قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمه الله : ( طلبت الأدب ثلاثين سنة , وطلبت العلم عشرين سنة , وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم ).غاية النهاية في طبقات القراء 1/ 198. وقال : ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم ) .ابن الجوزي : صفة الصفوة 4/145. ويقول بعض السلف: "نحن إلى قليل من الأدَب أحوجُ منا إلى كثيرٍ من العلم" انظر: مدارج السالكين (2/376). ويقول عبد الله بن وهب رحمه الله: "ما تعلَّمنا من أدبِ مالكٍ أكثرُ مما تعلّمنا من علمه" انظر: سير أعلام النبلاء (8/113). وفي الزهد لابن المبارك : عن الحسن البصري : ( كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه ولسانه ويده ) . وقال أبوعبدالله سفيان بن سعيد الثوري : (كانوا لا يخرجون أبناءهم لطلب العلم حتى يتأدبوا ويتعبدوا عشرين سنة). وأخرج الخطيب في الجامع بسنده إلى مالك بن أنس قال: قال محمد بن سيرين (كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم).وقال الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب نفسه السنتين ثم السنتين. انظر: تذكرة السامع والمتكلم , لابن جماعة 4. وعن أبي زكريا يحيى بن محمد العنبري قال (علم بلا أدب كنار بلا حطب ، وأدب بلا علم كجسم بلا روح). وعن عيسى بن حمادة زغبة قال : سمعت الليث بن سعد يقول (وقد أشرف على أصحاب الحديث فرأى منهم شيئا فقال : ما هذا ؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم). وقال سفيان بن عيينة ، نظر عبيد الله بن عمر: إلى أصحاب الحديث و زحامهم فقال (شنتم العلم وذهبتم بنوره، لو أدركنا وإياكم عمر بن الحطاب لأوجعنا ضربا). وروى الخطيب في الجامع عن إبراهيم بن حبيب الشهيد قال : قال لي أبي ( يا بُني إيت الفقهاء والعلماء , وتعلم منهم ، وخذ من أدبهم ، وأخلاقهم ، وهديهم , فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث ) الجامع لأخلاق الراوي 1/80. وعن محمد بن عيسى الزجاج قال (سمعت أبا عاصم يقول: من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا، فيجب أن يكون خير الناس). قال الشاعر: وإن بُليتَ بقومٍ لا خلاقَ لهم * * * إلى مداراتهم تدعو الضروراتُ فقل يا ربِّ لطفَك قد مال الزّمان بنا * * * مِن كلِّ وجهٍ وأبلتنا البليَّاتُ ولقد طبق سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ذلك عملياً , فلقد حرصوا على أن يتعلم أولادهم الأدب قبل العلم , قال مالك بن أنس : كانت أمي تجهز عمامتي وأنا صغير قبل ذهابي لحلق العلم، فتقول: يا مالك خذ من شيخك الأدب قبل العلم!. قال الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي الله عنه بنيت أمري على الصدق وذلك أني خرجت من مكة إلى بغداد أطلب العلم فأعطتني أمي أربعين دينارا وعاهدتني على الصدق فلما وصلنا أرض همدان خرج علينا عرب فأخذوا القافلة فمر واحد منهم وقال ما معك قلت أربعون دينارا فظن أني أهزأ به فتركني فرآني رجل آخر فقال ما معك فأخبرته فأخذني إلى كبيرهم فسألني فأخبرته فقال ما حملك على الصدق قلت عاهدتني أمي على الصدق فأخاف أن أخون عهدها فصاح ومزق ثيابه وقال أنت تخاف أن تخون عهد أمك وأنا لا خاف أن أخون عهد الله ثم أمر برد ما أخذوه من القافلة وقال أنا تائب لله على يديك فقال من معه أنت كبيرهم في قطع الطريق وأنت اليوم كبيرنا في التوبة فتابوا جميعا ببركة الصدق .الصفوري : نزهة المجالس ومنتخب النفائس 1/160. وحينما جلس الإمام الشافعي وهو غلام صغير في مجلس الإمام مالك بالمدينة المنورة، وكان الإمام مالك يقرأ في درسـه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في مسجده، وكانت عادته إذا ذكر الحديث أن يقول: عن فلان، عن فلان، عن صاحب هذا المقام، ثم يشير إلى قبر الرسول. فرأى وهو يشير إلى القبر الشافعي يعبث بثمرة من الحصير؛ بعد أن بلها بريقه فوق يده! فحزن الإمام مالك، ثم انتظر حتى أنهى درسه الذي قرأ فيه أربعين حديثًا، ثم ناداه، فأقبل وجلس بين يديه، فعاتبه قائلاً: لماذا كنت تعبث أثناء تلاوة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا سيدي! ما كنتُ أعبث ولكني كنتُ أسجل بريقي ما تقول حتى لا أنسى؛ لأنني فقير، ولا أملك الدرهم الذي أشتري به القرطاس والقلم. فتعجب الإمام مالك، وقال له: إذا كنتَ صادقًا فاقرأ ولو حديثًا واحدًا من الأربعين التي قرأتُها في درس الليلة. فجلس الشافعي كما كان يجلس أستاذه الإمام، وقال: عن فلان، عن فلان، عن صاحب هذا المقام؛ وأشار إليه كما أشار الإمام، ثم قرأ الأربعـين حديثًا. فأعجب الإمام مالك بذكائه، وقال له: إني أرى الله قد ألقى في قلبك نورًا، فلا تُطفئه بظُلمة المعاصي. وفي يوم رأى الإمام الشافعي أن ذكاءه لم يعد في الدرجة التي كان عليها من قبل، فذهب إلى أستاذه الإمام وكيع، وشكا له سوء حفظه، وقد أشار إلى هذا بقوله: شكوتُ إلى وكيعٍ سُوءَ حِفظي * * * فأرشــدني إلى تــركِ الـمعـاصي وأخـبــرني بـأنَّ العلـمَ نــورٌ * * * ونــــورُ اللهِ لا يُــهــدَى لـعــاصي فالتعلم قبل التأدب قد يقود المرء إلى الغرور والعجب والكبر وهي أخلاق لا يتصف بها أهل العلم , كما أن العلم بلا أدب قد يقود المرء إلى الزيغ والضلال فيتتبع رخص العلماء ولا يدري فيَضل ويُضل , حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، ولكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، وما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
قال أبو منصور الدِّمْياطِيّ، في قصيدةٍ له: أيها العالمُ إيَّاك الزَّلَلْ * * * وأحذَرِ الهَفْوةَ فالخَطْبُ جَلَلْ هَفْوةُ العالِم مُستَعظَمةٌ * * * إن هَفَا أصبح في الخَلْقِ مَثَلْ وعلى هَفْوتِه عُمدَتُهمْ * * * وبه يَحْتَجُّ من أخْطَا وزَلْ فهو مِلْحُ الأرضِ ما يُصْلِحُه * * * إن بدَا فيه فَسادٌ أو خَلَلْ قال هشام بن عمار رحمه الله: " باع أبي بيتاً بعشرين ديناراً وجهزني للحج فلما وصلت المدينة أتيت مجلس الإمام مالك رحمه الله وهو جالس في مجلسه في هيئة الملوك والناس يسألونه وهو يجيبهم فلما حان دوري قلت له: حدثني فقال لا، بل اقرأ أنت فقلت لا بل حدثني ، فلما راددته وجادلته غضب وقال: يا غلام تعال أذهب بهذا فاضربه خمسة عشر،قال: فذهب بي فضربني ثم ردني إلى مالك فقلت :قد ظلمتني فإن أبي باع منزله وأرسلني إليك أتشرف بالسماع منك وطلب العلم على يديك ، فضربتني خمسة عشر دُرّة بغير جرم ، لا أجعلك في حل،فقال مالك، فما كفارة هذا الظلم؟فقلت كفارته أن تُحدثني بخمسة عشر حديثاً ،فقال هشام:فحدثني مالك بخمسة عشر حديثاً فلما انتهى منها قلت له: زد في الضرب وزد في الحديث،فضحك مالك وقال لي: اذهب وانصرف" من كتاب معرفة القراء الكبار للذهبي(1/196). فانظر كيف حرص هؤلاء على تعليم أولادهم وتلاميذهم الأدب قبل العلم والخلق قبل الفقه , حتى إذا ما تعلم الطالب وتصدر للتدريس كان لديه من الأدب والخلق ما يحميه من الزلل ويمنعه من الخطأ.
| |
|